Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

             

  آفاق


  تاريخ النشر: 10 /3 /2018
  

 

 

تداخل العلوم والآداب والفنون في عصرنا  :

 أنا روائي ، إذن أنا أكره الرياضيات !!!

 لطفية الدليمي

 

غالباً ما نسمع تصريحات لبعض الشعراء أو الروائيين أو المشتغلين بالحقول الأدبية عموما تعلن كراهيتهم للرياضيات، واعتبارها متطلّباً تحليلياً معقداً لا يتّفق مع الاشتغالات الأدبية ومَلكة التخييل التي تتطلبها صنعة الأدب.

لنتّفق أولاً على تأصيل الحدود المعرفية لمفردة “الخيال” وكلّ المفردات المرتبطة بها، مثل الجمال والاستعارة والبلاغة والتجنيس الفني… إلخ. ثمة سوء فهم خطير لدينا ، وهو ذو منشأ تعليمي ، قائم على الفصل بين الاهتمامات العلمية ونظيرتها الأدبية ، وربما يتذكّر الكثيرون الكيفية البائسة التي كان يتمّ بها توزيع الطلّاب على الدراسة العلمية والأدبية ؛ فكان الأساتذة المحسوبون خبراء لامعين في ميدانهم لا ينفكّون عن توجيه الطلاب بالقول إنّ من يمتلك موهبة جيدة في الرياضيات عليه أن يتوجه للدراسة العلمية، وإن من يجيد فنون الحفظ والشعر والأسلوب البلاغي المتفنن ويمتلك الخيال عليه اختيار الدراسة الأدبية، ولستُ في حاجة لإثبات خطأ هذه الطرح العقيم الذي سيكون شكسبير بمقتضاه أعظم “درّاخ” في العالم.

ثم ماذا سيقول هؤلاء عن شخصيات أمثال ليوناردو دافنشي أجادت في الأدب والفنون والعلوم والهندسة ؟ يبدو سوء الفهم هنا مركّبا؛ إذ هو ناشئ عن معرفة مشوهة بطبيعة الخيال البشري الذي يُعدّ سمة بشرية ملازمة لمتطلبات البصيرة التواقة لتجاوز المحدوديات الفيزيائية والارتقاء بها نحو ممكنات أفضل عبر ابتكار صور ذهنية بدء، تعمل على خلق المحفزات لتشكيل تلك الصور في هيئة مجسدات مادية، ومن جانب آخر يبدو أن القيّمين على شؤون التعليم لدينا أرادوا تنسيب شيء من الوجاهة للدراسة الأدبية فاختلقوا ذلك الوهم القائل أنّ الخيال خصيصة ملازمة للدراسة الأدبية حصراً، ونعرف جميعاً كم هي بائسة مُخرجات ذلك التعليم وطرائقه الرتيبة التي تتكفّل بوأد أي بذرة لخيال ملهم يمكن أن يحوزه الطلبة.

تسود في عالم اليوم، ومنذ عقود عديدة ، قناعة أكيدة بأن العلم ميدان إبداعي لا يختلف نوعياً عن الميدان الأدبي، وأن أصل الإبداع في كل الحقول المعرفية يغترف من المنبع ذاته : الشغف، وتعمّقت القناعة بضرورة امتلاك الإنسان - فضلاً عن الكاتب - معرفة بالمفاهيم العلمية الأساسية كما تحكي عنها كتابات المؤلفين العظام - من أمثال أسيموف وكلارك وبرادبوري - بعيداً عن الشائع من العلم المدرسي المتيبّس المفتقر للحيوية والقاتل لكلّ شغف أصيل ، وتشترط تلك القناعة أن يمتلك الشخص المتخصص بالحقول العلمية معرفة مقبولة بكلاسيكيات الأعمال الأدبية العالمية الكلاسيكية منها والمعاصرة ، ويعمل التعليم -الجامعي بخاصة - على تشجيع عملية تعشيق بين العلم والأدب بإعطاء دروس في الفلسفة والآداب واللغات لطلاب الفروع العلمية والهندسية.

وللحديث عن تداخل العلم والأدب راهنا نجد أن الرواية قد بلغت حداً من التطور شهدت معه تغييرات هيكلية وأسلوبية ثورية ؛ وأضحت مثابة معرفية قادرة على توظيف الخيال عبر “التخييل المعرفي” الذي أسقط الكثير من الملاعبات الشكلية المصاحبة لرواية ما بعد الحداثة؛ فاقتربت الرواية المعاصرة من نمط “الكلاسيكية المحدّثة” المحمّلة بفتوحات معرفية تنتمي إلى حقليْ الرياضيات والعلوم ، على نحو إبداعي مفارق للصلادة الأكاديمية التي نتصورها عن تلك العلوم: ترى ما عساه سيقول ذلك الروائيّ الذي يرى كراهية الرياضيات فضيلة محمودة لو وقعت بيده رواية فرنسية معاصرة يتحدث كاتبها عن تطوّر “نظرية المعلومات” ؟